نتكلم هذه المرة عن موضوع مهم يقوم على أساسه ثلاثة أرباع يومنا هذا، وهو موضوع الرزق، والذي يعتقد الناس أن سعادتهم مرتبطة به.. فإن زاد زادت سعادتهم وإن قلّ قلت.
والعجيب في هذا الأمر أنك حين تذكر كلمة الرزق سرعان ما تنصرف أذهان الكثيرين إلى المال.. فهل الرزق هو المال فقط؟ أم أن المال صورة من صور الرزق؟
من هنا وجب علينا أن نتفق على أن هناك فرقا بين الرزق والكسب، فالكسب هو المال الذي تحصل عليه نظير عمل ما، كأن يكون راتبك الشهري مثلا مبلغا معينا.. وهذا المبلغ هو الذي تقوم على أساسه حياتك، وتنظم مشترياتك وقضاء حاجاتك..
أما الرزق يا أحبائي فهو كل ما يُنتَفع به. فالرزق أشمل وأعم من المال، وما كسب المال إلا صورة من صور الرزق، فالأب الصالح رزق، والأخ الطيب رزق، والأم الحانية رزق، والزوجة الخيِّرة رزق، والأبن الطائع رزق، والمدير المتفاهم العادل رزق، والصحة رزق، انتفاعك بالموعظة رزق، حب الناس رزق، الرضا في المنع والعطاء رزق.
وقد تكلم العلماء عن الرزق فذكروا أن هناك رزقًا عامًا كفله الله لجميع المخلوقات بمن فيهم البشر مؤمنهم وكافرهم، وهو الذي قال الله فيه: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ"..
ورزق ثانٍ هو للمؤمنين من عباده، وهو بالنسبة للرزق العام بمثابة الروح من الجسد، وهو البركة، هذه البركة التي تجعلنا نتساءل: هل الرزق بكثرته؟ هل هو بالكَّم أم بما ينتفع به من هذا الكمّ؟
والحقيقة التي أثبتتها تجارب الحياة، أن الرزق لو نزع منه البركة لا نراه كافيا مهما زاد، ولا نراه معينا مهما جمعنا منه، والقليل المبارك فيه نهر من الخير يجري ولا ينقطع مداده.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.."، فالإنسان يحب المال حبا جمًّا، ولأجل زيادة المال قد يكذب ويغش ويخدع ويقتل، مع أن حقيقة الأمر أن البركة في الرزق هي حقيقة الرزق.. وأن الكثير بلا بركة قليل في أعين الناظرين.
ولابد أن نعلم أن علينا ونحن نطلب الرزق أن ننشغل بمراد الله وبرضاه فنفعل ما يحبه ونحن نطلب هذا الرزق، وهنا يقول ابن القيم في كتاب الهجرتين: "من كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد"..
لقد أوجب الله علينا عند طلب الرزق أن يكون يقيننا أن الله هو الرزاق.. "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ"، وأن رزقنا بيديه سبحانه: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"..
فإذا تيقَّنا من ذلك، لن نلجأ لغش أو خداع أو نفاق لأولي الأمر أو المستخلفين في إدارة بعض الأمور ونسير بعيدا عن مراد الله لأجل مرادهم وكل هذا خشية فوات الرزق.. فلا أحد يملك أن يقطع عيش أحد أو يوصل عيش أحد بل هي الأسباب التي يسوقها الله على يد عباده لأجل أن يتحقق مراده في عباده، فسبحانه القائل: "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ"... فهو صاحب الأمر وبيده الأمر وهو على كل شيء قدير.
إن الرزق يا أحبائي من عند الملك، من السماء، من رب السماء. ليس الرزق في الأرض، نحن نسعى في الأرض ولكن الرزق يأتينا من السماء، "فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ".. الله سبحانه وتعالى جل فى علاه يقسم، ويقسم بذاته لنعلم أن الأمر جد خطير ومهم أن نتعرف عليه، وأن نوقن أن الرزق مكتوب عند الملك، محسوم لا شك بأمره وقدرته وحكمته.
فتذكر يا أخي أن الله رزقك وأنت في بطن أمك لا حول لك ولا قوة، رزق الطيور في السماء، والأسماك في البحار، ورزق كل ما نعلم وما لا نعلم من خلقه، فكيف الذي سخر لنا كل شيء ورزقنا من كل شيء ونحن لا نعلم شيئا.. كيف يبخل علينا وقد أحيانا وأعزنا وقد علمنا وأعلمنا أن الرزق بيديه هو، وهو الغني وهو الرازق وهو الرحيم؟!
وقبل أن أختم حديثي إليكم عن الرزق هذه المرة فإنني أذكركم بشيء مهم أن الله يحب العبد الذي يسعى على الرزق ويتوكل على الله في أمره، ويوقن أن لا أحد بيده أن يعطيه شيئاً أو يمنع عنه شيئا إلا بمراد الله وكما كتب الله.. رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الله لا يحب العبد المتواكل، أو الذي يترك السعي لأنه عبد مُعطَِّل لمراد الله في خلقه. بل نسعى دون الاعتماد على الأسباب فكثيرا ما يرزقنا الله من حيث لا نعلم.
وربما نكتفي هذه المرة بأن عرفنا ما هو الرزق وأنه محسوم وأنه بيد الله تعالى.. وليس لأحد غير الله سلطان في أمره. وفي حلقتنا القادمة بإذن الله نتكلم عن البركة فيه وكيف نطلبه وما هي موجبات الرزق الطيب..
أعزنا وأعزكم الله،
ورزقنا الله وإياكم رزقا حلالا طيبا من حيث لا نعلم..
ومن كان رزقه على الله فلا يحزن.