شعرت مساءً برغبة في التنفس بعمق، لملمت بعضي وسرت باتجاه الخليج، كعادتي أقطع الطريق من داخل الحديقة وأسابق الريح باتجاه الكورنيش.. ورحت أمشي وأمشي وأتنفس بعمق، الجو لا يزال بارداً والرياح منعشة، والمساء يغلفه السكون، والسماء نصف صافية تظللها أكاليل السحاب هنا وهناك.. ونجمة وحيدة تلمع ثم تستحي حين تمر عليها الغيوم.. تنعكس أضواء الشارع على موجات الخليج فتتألق كالماسات على صفحة مياهه الهادئة.
لمحت بين ظلام الموج طائراً صغيراً يسبح وحيداً، وتنعكس الأضواء على جسمه الأبيض، قلت في نفسي:
"ما الذي أخرجك في هذه الساعة أيها المتهور؟!! أما تخاف ظلام الليل ووحشة الموج وبرد الشتاء؟؟"
فالتفت إليّ بصرامة:
- وما دخلك أنت أيتها العاقلة؟؟
فاجأني قوله فرددت في نفسي:
- هل تفهمني؟
- ولمَ لا أفهمك؟ ألسنا أمماً أمثالكم؟
عجبت لمنطقه، وسرعان ما تداركت دهشتي قائلة:
- عذراً أيها الطائر الصغير.. فهذه أول مرة أنتبه إلى حديث طائر أو أصغي إليه.
هز رأسه بقوة قائلاً:
- لست طائراً صغيراً.
- وبم تحب أن أناديك إذاً؟
- باسمي!!
- وما اسمك؟
- أبو قريحة.
ضحكت رغماً عني وأنا أنظر إليه وقد أدهشني الاسم حقاً، فقال بعصبية:
- علام تضحكين يا آدمية؟ أما يكفيك تعطيلي عن اصطياد سميكات عشائي لتسخري مني ومن اسمي..
وأضاف بحدة أكبر:
- أنتم بشر ظالموووووووووووووووون ساخروووووووووووووووووون متكبروووووووووووووووووون....
قلت محاولة تهدئته:
- على رسلك أيها الطائر، عفواً.. يا سيد أبا قريحة.. إنما فاجأني الاسم فحسب، ولم أقصد السخرية أبداً.
رد بكلمات كنظراته حادة:
- هذا ما يقوله عنكم الدكتور محمد المهدي في دراسته عن الشخصية المصرية.
- عجباً وكيف عرفت عن الدكتور محمد المهدي ودراسته عن الشخصية المصرية؟
قال وهو يهز رأسه وجناحيه بطريقة مسرحية:
- أنتم بشرٌ ثرثارون.... كل يوم يمر من هنا عشرات البشر ويتحدثون ويتحدثون ويتحدثون.
قلت مستفسرة:
- وماذا قال الدكتور المهدي عن الشخصية المصرية؟
انتفخت أوداجه واستطال عنقه وكأنه يلقي عليّ محاضرة وقال:
- قال إنها تتميز بستة خصال رئيسية: التدين والذكاء والفن والطيبة والرغبة في الاستقرار والسخرية.
- وكيف عرفت أني مصرية؟
- من لهجتك يا فقيهة.
أحرجني منطقه وسلامة تفكيره، فقلت له:
- علمني مما علمك الله يا حكيم.
فاستدار بعصبية وسبح بعيداً عني، فصحت:
- تمهل، إلى أين، وما الذي أغضبك؟
حدجني بنظرة جانبية حادة وهو يقول:
- لأنك تسخرين مني.
- لم أفعل، لم أقصد السخرية كنت أحاول مدحك بما فيك.. لمَ لا تُحسن الظن بي؟
قال مرة أخرى بلهجة بطيئة وكأنه يملي علي:
- لأنكم بشرٌ ظالمون ساخرون.....
قاطعته:
- لا تطلق أحكاماً عامة على كل البشر، فنحن مختلفون.
خفض رأسه مقتنعاً بما قلت وردد وهو يشير بجناحيه يمنة ويسرة:
- صدقت.. صدقت.. ولكن الأغلب الأعم ظالمون، لبعضهم البعض حاسدون، أما نحن أمة الطير فلا نظلم ولا نحسد بل جميعنا متحابون في سلام متعايشون، نغدو خماصاً ونعود بطاناً..
ثم قال فجأة وهو ينظر إلى عيني مباشرة:
- لأنك نبيهة..سأكافئك بتعليمك كلمات من الحكمة ولكن بشروط.
أسندت وجهي إلى راحتي على سور الكورنيش وأنا أقول:
- تفضل.
أغمض عينيه وقال بلهجة حالمة:
- أن تحفظيها وتعيها، وعلى كل دفاترك تكتبيها، وإلى جوارها ترسميني بعيونٍ سوداء ذكية أرتدي نظارة طبية و...
ضحكت وضحكت ولم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك، وأنا ألمح أمارات الغضب تبدو على حركاته العصبية.. فأقول بين ضحكاتي:
- عذراً عذراً أنا آسفة جداً.
قال وهو يشيح بجناحيه ويحرك رأسه وذيله ويدور في الماء بحركات سريعة:
- تضحكين عليّ!!!!!!! ألست مثل الأستاذ فلان والأستاذ فلان والدكتور فلان الذين تحترمينهم وتجلينهم!!!!
توقفت عن الضحك وقلت:
- مهلاً، ومن هؤلاء الأستاذ فلان والأستاذ فلان والدكتور فلان الذين أحترمهم وأجلهم؟؟!!!
قال وكأنه عبقري الزمان:
- لأنك يا "فقيهة" الوحيدة من كل هؤلاء البشر التي توقفت لمشاهدتي، ولفت انتباهك خروجي في الليل.. وتفكيرك يدل على أنك ذات عقلية باحثة، وكل باحث له من هو أبحث منه، وكل أستاذ له من هو أستذ منه وكل دكتور له من هو أدكتر منه و....
قاطعته بقولي مسلِّمة:
- لا عليك، أسلم بعبقريتك ومنطقك القوي.
وضممت كفيّ أمام وجهي وخفضت رأسي قائلة:
- أعتذر إليك يا أستاذ أبا قريحة.. وأرجو أن تعفو عني.
قال بغير اكتراث:
- عفوت عنك.
- ألا تضحك أبداً؟
- كلا.
- لماذا؟!!
- ليس لي حنجرتك يا ذكية!!
- فكيف تحادثني إذاً.
قال وهو يتأملني بتعجب وبكل عين مرة:
- إننا لا نتحدث!! نحن نتخاطر.. ألم تنتبهي بعد!!
عجبت لأني لم أنتبه، بالفعل لا أسمع أي صوت!!
قلت محاولة الهروب من حرجي:
- فما هي كلماتك التي ستعلمها لي.. لقد وعدتني.
رفع جناحيه ورأسه متطلعاً إلى السماء بكلتا عينيه، ثم نظر إليّ وهو يقول في هدوء الحكماء:
- اصبري تنالي.. الصبر مفتاح الفرج.. وكل آتٍ.. لا شك آت.. وكل ما لن يأتي.. لن يأتي أبداً.
رددت وراءه كلماته ببطء وأنا أتأملها، وأشعر بأنها تمس بعمق كثيراً مما يمور في داخلي.. أغمضت عيني مستسلمة لهبة ريح باردة عصفت بشال أخضر أتدثر به..
وحين فتحت عينيّ لم أجده، حدقت مراراً في الأمواج، وأنا أتساءل في نفسي:
أين ذهب لعله بخير.. أم كنت أتوهم ما حدث.
لم أستطع تبينه بين الأمواج فأكملت سيري لبعض ساعة ثم عدت إلى منزلي تصحبني كلماته الحكيمة..
"اصبري تنالي.. الصبر مفتاح الفرج.. وكل آتٍ.. لا شك آت.. وكل ما لن يأتي.. لن يأتي أبداً"..
سلام عليك يا أبا قريحة ولعلي ألقاك مرة أخرى.